كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثانية- أن يقتل بالقتيل واحدًا فقط ولكنه غير القاتل. لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل، منهي عنه في الآية أيضًا.
الثالثة- أن يقتل نفس القاتل ويمثل به. فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضًا.
وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة- فما ذكره بعض أهل العلم، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل، من أن معنى الآية: فلا يسرف الظالم الجامي في القتل. تخويفًا له من السلطان. والنصر الذي جعله الله لولي المقتول لا يخفى ضعفه، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.
وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بيانًا مفصلًا، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان: هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل، من تمكينه من قتله إن أحب. ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجانًا.
الأول: قوله هنا {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} بعد ذكرر السلطان المذكور، لأ، النهي عن الإسراف في القتل مقترنًا بذكر السلطام المذكور يدل على أن السلطان المذكور هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} إلى قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} [البقرة: 178-179] الآية. فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى:
يفهم من قوله: {مّظْلُومًا} أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك، لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله. كما قدمنا بذلك حديث بان مسعود المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول لله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» كما تقدم إيضاحه في سورة المائدة.
وبينا هذا المفهوم في قوله: {مَظْلُومًا} يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضًا: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} [الأنعام: 151].
واعلم- أنه قد رود في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة، على اختلاف ذلك بين العلماء. من ذلك: المحاربون إذا لم يقتلوا أحدًا. عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله: {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا} [المائدة: 33] الآية. كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة المائدة.
ومن ذلك قتل الفاعل والمفعول به في فاحشى اللواط، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة هود.
وأما قتل السحار فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله: «التارك لدينه المفارق للجماعة» لدلالة القرآن على كفر السارحر في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر} [البقرة: 102] الآية، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] لآية. وقوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 102].
وأما قتل مانع الزكاة- فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في «التارك لدينه المفارق للجماعة». وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه: القتال لا القتل، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من: أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن ماجه من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا.
وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل. لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه، إلا ما ثبت بوحي ثبوتًا لا مظعن فيه، لقوته والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية:
- قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم. كقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] الآية. وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها، قال الله نعم قد فعلت. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} [النساء: 92]، ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92] الآية. وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدرًا جنسًا كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سياتي إيضاحه.
المسألةالثالثة
- يفهم من إطلاق قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاحن وبغير محدد كرضخ الراس بحجر ونحو ذلك. لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلمًا فيجب القصاص.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك، والشافعي، وأحمد في اصح الروايتين.
وقال النووي في شرح مسلم: هو مذهب جماهير العلماء.
وخالف في هذه المسالة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال: لا يجب القصاص لا في القتل بالمحدد خاصة، سواء كان من حديد، أو حجر، أو خشب، أو فيما كان معروفًا بقتل الناس كالمنجنيق، والإلقاء في النار. واحتج الجمهور على أن القاتل عمدًا بغير المحدد يتقص منه بأدلة:
الأول: ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك.
الثاني: حديث انس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة: أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، رض رأسه بهما.
وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح في محل النزاع تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا سيما على قوله: باستواء دم المسلم والكافر المعثوم الدم كالذمي.
الثالث: ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهما، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح. قال النسائي: أخبرنا يوسف بن سعيد، قال حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال أخبرني عمرو بن دينا: أنه سمع طاوسًا يحدث عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين حجرتي امرأتين. فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها. فقضى النَّبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل بها. وقال أو داود: حدثننا محمد بن مسعود المصيصي، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع طاوسًا عن ابن عباس، عم عمر: أنه سأل في قضية النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل. قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المسطح هوالصولج. قال أبو داود: وقال عبيدة: المسطح عود من أعواد الخباء. وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، أخبرني ابن جريج، حدني عمرو بن دينارك أنه سمع طاوسًا، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه نّشَدَ الناس قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك يعني في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فتلتها وقتلت جنينها. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها. انتهى من السنن الثلاث بألفاظها.
ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح. فرواية أبي داود، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري، ويقال له المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة، وهو ثقة عارف. ورواية ابن ماجه عن أحمد بن سعيد الدارمي، وهو ابن سعيد بن صخر الدارمي أبو جعفر وهو ثقة حافظ، وكلاهما أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجه روي هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، وهو أبو عاصم النَّبيل، وهو ثقة ثبت. والضحاك رواه عن ابن جريح، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل. إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والاخبار عن عمرو بن دينا وهو ثقة ثبت، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل، ان ابن عباس، عن حمل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ، عن حجاج ابن محمد، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغذاد ثم المصيصة ثقة ثبت. لكنه اختلط في أخر عمره لما قدم بغداد بل موته، عن ابن جريج، غلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجه. وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج المذكور في روايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أبي عاصم له عند داود وابن ماجه، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور فيروايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أب عاصم له عند أبي داود وابن ماجه، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي.
وأبو عاصم ثقة ثبت.
ورواه البيهقي عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وحزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابه في ترجمة حمل المذكور. وقال البيهقي في السنن الكبرى في هذا الحديث: وهذا إسناد صحيح وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب العلل قال: سالت محمدًا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح، رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينا، عن ابن عباس هذا حديث صحيح، رواه ابن جريج، عن عمرو بن دينا، عن ابن عباس. وابن جريج حافظ اهـ.
فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد، لأن المسطح عمود. قال الجوهري في صحاحه: والمسطح أيضًا عمود الخباء. قال الشاعر هو مالك بن عوف النصري:
تعرض ضطار وخزاعة دوننا ** وما خير ضيطار يقلب مسطحا

يقول: تعرض لناهؤلاء القوم ليقاتلونا وليسوا بشيء. لأنهم لا سلاح معهم سوى المسطخ والضيطار، هو الرجل الضخم الذس لا غناء عنده.
الرابع: ظواهر آيات من كتاب الله تدل على القصاص في القتل بغير المحدد. كقوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الآية، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج: 60] الآية، وقوله: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} [الشورى: 41-42] الآية.
وفي الموطأ ما نصه: وحدثني يحيى عن مالك، عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة: أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل على رجل قتله بعصًا فقتله وليه بعصًا.
قال مالك: والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الرجل إذا ضرب الرجل أو رماه بحجر، أو ضربه عمدًا فمات من ذلك. فإن هذا هو العمد وفيه القصاص.
قال مالك: فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه. اهـ محل الغرض عنه.
وقد قدمنا أن هذا القول بالقصاص في القتل بالمثقل هو الذي عليه جمهور العلماء. منهم الأئمة الثلاثة، والنخعي، والزهري، وابن سرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، نقله عنهما ابن قدامة في المعني.
وخالف في ذلك أبو حنيفة، والحسن، والشعبي، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس رحمهم الله فقالوا: لا قصاص في القتل بالمثقل. واحتج لهم بأدلة:
منها- أن القصاص يشترط له العمد، والعمد من أفعال القلوب، ولا يعلم إلا بالقرائن الجازمة الدالة عليه. فإن كان القتل بآلة القتل كالمحدد، علم أنه عامد قتله. وإن كان بغير ذلك لم يعلم عمده للقتل. لاحتمال قصده أن يشجه أو يؤلمه من غير قصد قتله فيؤول إلى شبه العمد.
ومنها- ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان يقط ميتًا بغرة عبد أو أمة. ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها. وأن العقل على عصبتها».
وفي رواية «اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها».
قالوا: فهذا حديث متفق عليه يدل على عدم القصاص في القتل بغير المحدد. لأن رزايات هذا الحديث تدل على القتل بغير محدد، لأن في بعضها أنها قتلتها بعمود، وفي بعضها أنها قتلتها بحجر.